الاثنين 28 ربيع الأول 1447هـ 22 سبتمبر 2025
موقع كلمة الإخباري
متى يكون السجن مدرسة الرجال؟
حسن الهاشمي
"قد يكون السجن رَحمةً ومِنّةً من الله على الإنسان المؤمن، حيث يتفرّغ فيه للاتّصال بالله سبحانه وتعالى وتنقطع علاقته بمن دونه، ويكون الإنسان في مأمنٍ من مغريات الدنيا واختباراتها المتنوّعة، التي تجري على الناس خارج السجن".
2025 / 09 / 21
0

"قد يكون السجن رَحمةً ومِنّةً من الله على الإنسان المؤمن، حيث يتفرّغ فيه للاتّصال بالله سبحانه وتعالى وتنقطع علاقته بمن دونه، ويكون الإنسان في مأمنٍ من مغريات الدنيا واختباراتها المتنوّعة، التي تجري على الناس خارج السجن".

هذه الإجابة الشافية والوافية لسؤال ما استهللنا به عنوان مقالنا وهي ما أورده ممثل المرجعية الدينية العليا سماحة السيد أحمد الصافي (دام عزّه)، أثناء لقائه مجموعةً من السُجناء السياسيّين الذين رافقوه في سجون النظام البعثيّ سيّئ الصِّيت، في قسم الأحكام الخاصّة في سجن أبي غريب إبان ثمانينيات القرن الماضي، وذلك بمكتبه في العتبة العبّاسية المقدّسة يوم الجمعة الموافق 17/ 5/ 2024، واستذكر سماحته بعض الدروس والعِبَر التي يستفيد منها الإنسان المؤمن من تجربة السجن.

هنا بدورنا نستذكر المقولة التي تؤكد على ان (السجن مدرسة الرجال) نعم باستطاعتنا أن نحوّله الى مدرسة عندما يتحوّل من مكان للعقوبة الجسدية إلى محطة للتأمل، والتزكية، وإعادة البناء النفسي والفكري، وقتئذ يكون السجن مدرسة للرجال في الحالات التالية:

1ـ عندما يُستثمر في الصبر والثبات: مثلما فعل الأنبياء، كيوسف (ع)، أو الأولياء والمصلحين الذين دخلوا السجون ظلما، فحوّلوها إلى منابر فكر وإيمان وعبادة، لقد تفرّغ الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) للعبادة في السجن، بل كان يشكر الله على ذلك، قائلاً: (اللهم إنّك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت، فلك الحمد) الإرشاد - الشيخ المفيد - ج ٢ - ص ٢٤٠.

2ـ عندما يصبح السجين صاحب قضية: كمن سُجن دفاعا عن مبدأ أو مذهب أو وطن، فيتحول السجن إلى اختبار للصدق والثبات، وإذا كان كذلك فان السجين يتحمل كل أنواع التعذيب والتنكيل وربما القتل ولا يتنازل عن قضيته قيد أنملة؛ ولسان حاله إن الحياة عقيدة وجهاد، إذ أن جوهر الحياة هو امتلاك عقيدة ثابتة وجهاد في سبيل الدفاع عنها أو تحقيقها، ويرخص في طلب ذلك السجن والتعذيب والتقتيل.

3ـ عندما يكون فرصة لمراجعة الذات: بعض الأشخاص يدخلون السجن بأخطاء حقيقية، لكن يستثمرونه للتوبة، وطلب العلم، والعودة إلى الله، والذي يستثمر محطة العناء الى الانطلاقة نحو التغيير لهو جدير بالثناء والتقدير، لاسيما إذا كان التغيير معطرا بقداسة الوجود، فتكون تلك المحطة بمثابة سفينة نجاة يعبر من خلالها عباب البحر المتلاطم الى مرفأ الحرية والانعتاق من عبودية الدنيا الفانية الى عبودية الواحد المتعال، ذلك هو الفوز العظيم.

4ـ عندما تتحول العزلة إلى خلوة نافعة: يبتعد الإنسان عن الضوضاء، فيتأمل في دنياه وآخرته، ويعيد ترتيب أولوياته، وإعادة الأولويات تتأرجح بين ما قاله الإمام علي (عليه السلام): (الفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير) نهج البلاغة: الحكمة ٢١. وما حذّر منه (عليه السلام): (بادر الفرصة قبل أن تكون غصة) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٦ / ٩٧.

5ـ عندما تُولد فيه الإرادة لا الكراهية: فيُخرج رجالا أقوياء بالعقل والإيمان، لا مشحونين بالانتقام أو الإحباط، فالضربة التي لا تقضي عليك فإنها تقويك، هي مقولة شهيرة تُعبر عن أن التحديات والصعوبات التي يواجهها الإنسان ولا تؤدي إلى تدميره الكامل قد تجعله أكثر قوة وصلابة، وتساعده على التعلّم والنمو لما فيه من المرونة والقدرة على التكيّف، إلا أن البعض عندما يواجه الصدمات القاسية فأنها قد تُخلّف فيه آثارا نفسية عميقة وتُضعف الثقة بنفسه وتُفقده الشعور بالأمان، فالسجن لا يصنع الرجال دائما، لكنه يُظهر معادنهم؛ فالصالحون يحوّلونه إلى مدرسة، والفارغون يهدرونه في الندم والضياع.

تأسيسا لما سبق في النقاط الخمسة أعلاه، فان السجين باستطاعته ان يحوّل السجن الى مدرسة، يتعلم فيها الصبر والعزة والإباء، وينشر معارفه الحقة وما يتصف به من دماثة الأخلاق الى نزلائه في السجن، واعلم ان ما يقوله المظلوم أسرع نفوذا الى القلب مما يقوله غيره، وهو يبث في أوساطهم معاني الحرية والانعتاق من الظلم والظالمين، وما يخرج من القلب يدخل الى القلب، والمؤمن السجين لا يألوا جهدا الاّ ويبذله في تهذيب نفسه وفي سبيل الدعوة الهادية الى الله تعالى، لنشر القيم والذود عن المقدسات التي ضحى من أجلها، يساعده في ذلك أنه في أجواء بعيدة عن صخب الدنيا ومغرياتها الهالكة.


المؤمن الحقيقي هو ذلك الذي يحافظ على معنوياته الجهادية والعبادية التي حصل عليها في سجون الطغاة، والأهم من ذلك أنه يحافظ على روح الايمان عند خلاصه من السجن وانتقاله الى حيّز من الحرية والانعتاق من الظلمة، عليه ان يستمر في عطائه الفكري حتى آخر لحظة من حياته لعلّه يحظى بحسن العاقبة ولا يضيّع سني الجهاد ولا تذهب تضحياته أدراج الرياح، وأشار سماحة الصافي الى ذلك بقوله: "من وسائل تربية الله للإنسان أن يجعله يعيش حالة المظلومية وتقييد الحرية والهضم والحيف، ليستشعر بآلام الناس وظلاماتهم مستقبلاً، ويكون من وسائل رحمة الله في هذه الحياة، ولابدّ للمؤمن من أن يدّخر هذه اللَّحظات التي عانى فيها خلال سجنه، لتكون خالصةً لله تعالى حتّى يؤجر عليها، ولا يفرِّط بما بقي من عمره بأعمالٍ بعيدة عن مبادئه التي سُجِن من أجلها، وينسف كلّ هذا التأريخ من التضحيات".

حذار للإنسان أن يتحول من مظلوم إلى ظالم، فهذه من أخطر التحولات الأخلاقية والنفسية، لماذا هذا التحذير مهم؟ يجيبنا الامام علي (عليه السلام) على هذا التساؤل بقوله: (يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم) نهج البلاغة: الحكمة ٣٤١ و ٢٤١. فكيف إذا تبادل الطرفان المواقع؟ فالمظلوم الذي ذاق مرارة الظلم يجب أن يكون أحرص الناس على عدم تكرار التجربة مع غيره؛ لأن تحويل المظلومية إلى أداة تسلّط يؤدي الى السقوط النفسي والأخلاقي والاجتماعي، قد يقع البعض في فخ استغلال تعاطف الناس ليبطش أو ينتقم أو يبرر أفعاله الخاطئة، فيتحول إلى نسخة أخرى من الجلاد، فالمظلومية لا تعطي رخصة للظلم، فليحذر الإنسان أن يُفسده الجرح، ويُخرجه من موقع الحق إلى موقع البطش.

العدالة النفسية أو الاجتماعية لا تُبنى بالكراهية، فلا يمكن أن تبني مجتمعا سليما إن اتخذت من مظلوميتك ذريعة لتظلم الآخرين، فالإمام الحسين (عليه السلام) نهض مظلوما، وبقي متمسكا بميزان القيم حتى في أقسى لحظات المعركة، وبقي منارا يقتدى به على مر الأجيال لمصداقيته مع الله تعالى ومصداقيته مع الناس، بل انه عليه السلام حوّل المظلومية الى أداة لمقارعة الظالمين على مر الدهور، وجعل منها أداة فاعلة لتكريس معاني العدل والرحمة والانتصار، هذا ما أكد عليه سماحة السيد محذرا من الوقوع في شراك الظالمية بعد الخروج من مختبر المظلومية: "أن بعض الناس قد يسقط في فخّ الدُنيا ويتحوَّل من مظلومٍ إلى ظالمٍ ويتخلّى عن مبادئه، بعد أن منّ الله عليه بزوال الهمّ ورؤية التغييرات الاجتماعية الكبيرة التي حدثت بعد 2003م وزوال الطغيان". فالذي يدّعي الانتماء لمدرسة الحسين عليه السلام عليه أن يجتر مظلوميته إبان الطغيان الى زمن التحرر، في مواساة الطبقات الفقيرة لا استغلالها بجريرة الجهاد، وهو بذلك يدق اسفين الطبقية بينه وبين من أعطوه ثقتهم لتأريخه الجهادي.

الإمام علي (عليه السلام) وضع لنا قاعدة فكرية عظيمة في ميزان التقييم والاتباع بقوله: (إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) مجمع البيان للطبرسي: ١ / ٢١١. لا تجعل الأشخاص هم ميزان الحق، فتتبعهم لأنك تحبّهم أو تثق بهم دون تحقق، بل اجعل الحق هو الميزان، فمتى ما وافق قول الشخص الحق، اتبعه، ومتى ما خالفه، فدعه.

أهمية هذه القاعدة تكمن من أنها تحرر الفكر من التقديس الأعمى للأشخاص، وتُعلّم الإنسان أن يكون باحثا عن الحقيقة لا تابعا للوجوه، وتحفظ من الوقوع في العصبية الحزبية أو الطائفية، وتؤسس لاتباع المنهج لا الشخص، مهما كان مقامه أو مكانته، وإذا عصفت الدنيا عليك وألقتك في زمن الفتنة أو الاختلاف، لا تسأل: "مع من الحق؟" بل اسأل: "ما هو الحق؟" ثم انظر من يلتزمه، هذا الميزان يجعل الحق هو الحاكم على الناس، لا الناس حكّاما على الحق، هذا ما أكد عليه سماحة السيد الصافي بقوله: "تبقى رسالة الإنسان في هذه الدنيا أن يعمل بما أمره الله سبحانه وتعالى، وأن يلزم طريق الحقّ دائماً ليعرف أهله، فالحقّ لا يُعرف بالرجال وإنّما يُعرف الرجال بالحقّ".

التعليقات