من بين أبرز المعالم المتجذّرة في الوجدان الشيعي، تقف ثورتا الإمام الحسين عليه السلام والإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف كركيزتين مركزيتين في مشروع الإسلام الأصيل: الأولى تمثل ذروة المظلومية والنهضة الإصلاحية، والثانية تجسد قمة العدل الإلهي في آخر الزمان. وبينهما خيط ناظم عميق ليس مجرد ترابط عاطفي أو شعائري، بل هو تواصل مشروع رسالي متكامل، تكتمل فيه المسيرة، وتنتقل من بذور الإصلاح إلى شجرة العدل العالمي.
خرج الإمام الحسين عليه السلام قائلاً: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»، معلنًا بذلك أن ثورته لم تكن صدامًا على السلطة أو سعيًا للزعامة، بل كانت دعوة جذرية لإعادة الأمة إلى صراط الله، إلى حيث تستقيم القيم، ويُقام العدل، ويُحارب الفساد.
في المقابل، الإمام المهدي عليه السلام يظهر في آخر الزمان ليقيم «العدل والقسط كما مُلئت ظلماً وجوراً». فالغاية التي تحرك مشروع المهدي هي ذاتها التي حملها الحسين، لكن باختلاف الظرف والمرحلة والوسائل. وعليه، فإن الثورة الحسينية هي بذرة مشروع العدل المهدوي، وهي التي تمهّد له في العقول والنفوس والمجتمعات.
وإذا كانت ثورة كربلاء قد كشفت عن أبشع صور الظلم الذي يمكن أن ترتكبه أمة تدّعي الإسلام، فإن هذا الكشف هو في حقيقته تهيئة نفسية وروحية لانتظار مشروع الخلاص. فالمجتمعات لا تتحرك نحو العدل إلا حين تختبر الظلم، ولا تتوق إلى المصلح إلا حين تحترق بنار الفساد. ولذلك، فإن إحياء مظلومية الحسين وتكرار سردها ليس مجرد بكاء تاريخي، بل هو تأجيج دائم لشعور الحاجة إلى مصلحٍ إلهي يعيد للناس كرامتهم وحقوقهم. بهذا المعنى، فإن الخطاب الحسيني الحقيقي هو خطاب تمهيدي للمهدي، شرط أن يُفهم بمعناه الحركي، لا العاطفي فقط.
مجالس الحسين… وقود انتظار المهدي
تُعدّ المجالس الحسينية السنوية، وما يرافقها من مشاعر جياشة ومواقف ملحمية، فرصة استثنائية لتحويل الطاقات الكامنة في الأمة نحو هدف مستقبلي عظيم. فإذا أُحسن توجيه هذه المجالس، لا سيما في بعدها التربوي والثقافي، فإنها ستكون مصانع حقيقية لإنتاج جيل ممهّد للظهور، جيل يعي أن إحياء كربلاء ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة للالتحاق بركب الإمام المنتظر. من هنا، علينا أن ننتقل من البكاء على المظلوم إلى السير على درب المصلح، ومن مجرد الحزن إلى إعداد الذات والمجتمع لمشروع العدل الإلهي.
ولا يكفي أن نهتف للحسين وننتظر المهدي دون أن نمارس الإصلاح والعدل في حياتنا اليومية. فالحسين لم يكن إصلاحيًا بالكلام، بل نزل إلى الميدان، وضحّى بنفسه وعياله. كذلك المهدي لن يقيم دولته بمعجزة فقط، بل يحتاج إلى قاعدة مؤمنة، تمارس العدل وتتهيأ لتطبيقه.
والمقصود بالعدل هنا ليس فقط في القضاء أو الحكم السياسي، بل في الاقتصاد، والاجتماع، والتعليم، والأسرة، والعلاقات اليومية. فمن لا يعدل مع زوجته أو موظفيه أو جيرانه، كيف سيكون ناصرًا لإمام العدل؟ ومن لا يسعى لإصلاح نفسه ومجتمعه، كيف يكون ممهدًا للمهدي؟
علينا أن نؤسس لمشروع تربوي متكامل يربط الأطفال والناشئة بين كربلاء والظهور، ويزرع فيهم روح الإصلاح وعدالة القيم، لا الاكتفاء بالمشاعر الجيّاشة. هذا المشروع لا يكون عشوائيًا، بل يحتاج إلى مؤسسات ثقافية وتربوية، ومناهج تعليمية، وخطاب إعلامي منظم، كلّها تتجه نحو خلق إنسان يحمل قيم الحسين، وينتظر عدالة المهدي بالفعل، لا بالشعار.
النموذج الحسيني… قاعدة النموذج المهدوي
نجح أصحاب الحسين في تقديم أروع نموذج للتضحية في سبيل الله، رغم قلة عددهم. وكما بدأ الحسين بثلة قليلة، سيبدأ المهدي بقلة مؤمنة، تُعرف بصفائها لا بكثرتها. وهذا يُحملنا مسؤولية كبرى: أن نكون ممن يعدّ نفسه لليوم الذي يُطلب فيه نصرة الحق من جديد.
التمهيد للمهدي لا يعني انتظارًا خاملاً، بل هو تحرّكٌ دائم على خطى الحسين: إصلاح في النفس، وعدالة في الواقع، وتضحية عند الحاجة، وصبر على الأذى، وبصيرة لا يزلزلها الباطل. فمن لا يستطيع نصرة الحسين في ساعته، لن ينجح في نصرة المهدي في لحظة ظهوره.
ختامًا، لا بد أن ندرك أن الربط بين الحسين والمهدي ليس مجرد تكرار لذكرى أو ربط وجداني، بل هو مشروع تغييري يتطلب وعياً ورؤية ورسالة. لا نُمهّد للعدل الإلهي إلا بالعدل الواقعي. ولا نُقيم دولة المصلح إلا إذا أصلحنا أنفسنا. ولا ننتظر الإمام المنتظر إلا إذا كنا على مستوى الانتظار، لا كما يُفهمه البعض من الركون والسكون، بل كما يريده الله: (فانتظروا إني معكم من المنتظرين)، انتظارٌ فعّالٌ مليءٌ بالعمل، مشبعٌ بالأمل، محروسٌ بالبصيرة، وموصولٌ بثورة الحسين.
إذن، فثورة الإمام الحسين ليست محطة ماضية، بل نقطة انطلاق في مسار طويل نحو عدالة الإمام المهدي، ومن لم يُمهّد بالأولى، لن يلتحق بالثانية.