نحن في ذروة الفوضى، قد يكون من المناسب أن نفرح لحدث مهمّ كاتفاق إطلاق النّار، فهو انتصار نسبيّ، انتصار إرادة التحرر على إرادة الاحتلال، وقد نحزن لأنّ المنطقة دفعت أثمانا باهضة وخسرت مواقع كثيرة. لا يمكن الحديث عن هزيمة، ولكن ثمّة مخرجات فوضى عارمة تنتظر المنطقة. سيكون أيضا من الخطأ أن ننظر إلى الأحداث متفرّقة أو بعين أيديولوجية حولاء لمن لا زالوا لم يتعلّموا من التّاريخ. أخشى من نزيف التحليلات الفجة والاستشرافات البلهاء ومن أشكال التضامن الكيدي الذي لا يرقى إلى مقام المبدئية.
حتى الآن ما كنّا نخشاه وقع، لقد خرّب الاحتلال كلّ شيء، وبقيت روح المقاومة في وضع جريح. شركاء هذا الانتصار كثر، وهذا واجب أكثر مما هو تشريف، لم تترك غزّ..ة وحدها، ولقد قدّمت قوى الإسناد أغلى ما لديها لتعزيز ذلك الصمود.
كان لإنجاز اتفاق وقف إطلاق النّار معنى انتصار الدّم على السّيف، ومعنى آخر لا يقلّ رمزية هو أن القضية العادلة التي تعرّضت لمحاولات التصفية بوتيرة سريعة، طفت مجددا على السّطح بأبهى ما تكون العدالة صادمة، والمعنى الأبرز لهذه المعركة هو أنّ ثمة شعبا حيّا لا يمكن هضم مطالبه بقوة التّقادم، وهو بكفاحه الطويل أجبر الأمبراطورية الحالمة أن ترضح لضغط الصمود. لقد دفع أهالي غزّ..ة كُلفة هذه الحرب بكثير من الإصرار على الصمود والإلتفاف على مقاومتهم التي لخّصت مزاج شعب لم يقبل بالهزيمة. لقد فرض الشعب على قواه الحيّة تحمّل المسؤولية التّاريخية، فكان بمثابة البيئة الحاضنة للكفاح الوطني، والمزرعة التي نبتت فيها كلّ أشكال النّبوغ والصمود.
كان هذا الشعب في طليعة صناعة الحدث، وأدار المعركة بالكثير من الاقتدار الذي أقنع قوى الإسناد بمواصلة فكّ الحصار والعزلة عن شعب تخلّى عنه القريب والبعيد. وهنا كان الانتصار للأمّة وللإنسانية، كلّهم شركاء بما قدموه من تضحيات وتضامن، ووجب منح وسام النصر لمعادلة الصمود التي مثّلت المقاومة في غزّ..ة رأس الحربة فيها، وكانت قوى الإسناد التي لا يمكن تجاهل ما رفدت به المقاومة داخل غزّ..ة بكل مقومات الصمود، وإشعارها بأنّها معها بالتضحية لا بالكلام.
ولا أحد من هذا المحيط الذي باع الكلام للشعب الفلسطي..ني يستطيع أن يتحدّث عن إسناد يفوق محورا بكامله تلقّى أكبر الضربات التي طالت شعبه ومواقعه وقادته.
لا أحد له الفضل على المقاومة في غزة غير قوى الإسناد التي تعرضت للتشكيك في البداية ولا زالت، فكانت معاناتها مضاعفة، أوّلا: التضحيات الجسام التي قدمتها، وثانيا: قلّة الوفاء ممن ليسوا طرفا في معادلة الصراع، عبر التشكيك والتهوين من دورها. ولكن العبرة بالميدان وبالنتائج. إنّه انتصار تركيبي هائل، أعطى الاحتلال درسا بأنّ كل طور من أطوار الصراع، تبتكر المقا..اومة أساليب جديدة، وتتسع رقعة الإسناد، والأهم أنّ الأمّة ساهمت بكل ما لديها في هذا الانتصار وتضمن استمراره. وهذا يتطلب تطورا في الوعي بطبيعة الصراع، واستيعابا لتحدّياته، وتحرير الأمّة من أمراضها ونزعاتها التي أكسبتها الكثير من ثقافة الكيد والعدوان.
– مرة أخرى: ماذا بعد؟
إنّ اتفاق الهدنة لا يعني نهاية الحرب، بل نهاية جولة انتصرت فيها العدالة على الرغم من أن الاحتلال لن يدفع فاتورة الخراب والإبادة التي ذهب ضحيتها ألوف من الشهداء المدنيين. سيخرج وهو يرى نفسه قد أثخن في الخراب، ولا أحد سيطالبه بدفع الثّمن. اتفاق يؤمن إفلاتا من العقاب يجب على نشطاء القانون الدولي أن لا يتجاهلوه، لأن الاتفاق والتقادم لا يحجب الحقوق المادية والرمزية.
ليس تلك هي أولى الهُدن، بل هي واحدة منها على طريق سيّار من انتهاكها وتمزيق المواثيق، ليست المرة الأولى التي يبرم اتفاق لوقع إطلاق النّار مع احتلال ساهم فيقلب قاعدة كلاوزفيتش كما ذكرنا سابقا، حيث جعل الهدنة السياسية امتداد لمبدأ الحرب، حيث لا غنى للاحتلال عن الحرب. فالحرب باتت أصل السياسة، والسياسة هي نفسها باتت امتدادا للحرب بطريقة أخرى. فالاحتلال غير ملتزم بأي ميثاق من مواثيق القانون الدّولي. هي استراحة مقاتل، التفاف على العدالة، اتفاق فيه حقن دماء المدنيين، ولكنه أيضا اتفاق يؤمّن إفلاتا من العقاب، فالاحتلال لا يأبه بحقن دماء المدنيين.
أمام هذه المفارقة التي لا تحجب مخرجات صمود جعل الاحتلال عاجزا عن تحقيق أهدافه المعلنة، فلا هو استرجع المحتجزين من دون تبادل أسرى، ولا هو قضم البنية العميقة للمقا..ومة،ولا هو استطاع إقناع العالم بجريمة الإبادة. لقد سقط الاحتلال وأسقط معه حضارة بكاملها زعم أنّه يمثل جبهة متقدمة للدفاع عن قيمها ومبادئها. لقد أسقط كل القيم والقوانين المنظمة للسلام العالمي وحقوق الإنسان. لقد أسقط كل هذه لاعتبارات وجعل الأمم تعود إلى ما قبل المواثيق الدّولية، حيث لا شيء بات ضامنا لحقّ الدّول في سيادتها وحق الشعوب في واجب الكفاح الوطني.
يستطيع محور الكفاح ضد الاحتلال أن يشعر باستراحة مقاتل في معادلة صراع لا أفق له إلاّ بتفكك الاحتلال، وهو المبدأ الحاكم على كل المبادئ التي فرضتها المعادلة الدولية. لقد آن الأوان أن يخرج أطفال غزّة من ثقوب البيوت المهدّمة، أن يجدوا مأكلا وماء ودواء، أن يخرج رفاة شهدائهم من تحت الأنقاض، لقد تعرّضوا لأسوأ ما حرب إبادة في تاريخ النّوع، ولكنهم أظهروا بأسا شديدا وإيمانا أسطوريا بعدالة قضيتهم، كما أعادوا الأمّة إلى بوصلتها، إلى ذلك المعيار الحقيقي الذي توزن به التضحية كمّا ونوعا، لقد شدّوا عصب أمّة تتآكل ولا زالت تُخطئ في كثير من تصوراتها لأزمتها وللمصير. إنّ الانفعال الذي لا يرافقه وعي، هو واحدة من مصائب تجارب الأمم. إنّ ما ينتظر هذه الأمّة من تبعات أخطائها وسلبياتها وتراجع وعيها خطير جدّا، فالمنطقة دخلت مرحلة جديدة ستظهر لمن لا زال يجعل من الكيد منهاجا في الرؤية والتحليل، بأنّ لا غنى عمن أمعنا في استبعادهم، وستظهر كم خسرت المنطقة بسبب الفوضى والتسامح في أدلّة الغباء السياسي، ذلك الغباء الذي يجعلنا نفسد انتصاراتنا، نفسد مكتسبات كفاح وطني تتضاعف مسؤولية الحفاظ عليه أكثر من إنجازه.