في كل ليلة من ليالي العاشر، كنت أُوقد نيران الندبة على محراب قصيدة، او اكون في حضرة المقال.. لا بالحبر، بل بالدمع، لا بالقلم، بل بروحٍ تنزف كأنها أحد خيام كربلاء وقد التهمتها النيران... كنت أنظم، وانثر لا لأرثي فحسب، بل لأصرخ من بين أنين التاريخ: يا حسين.. وكان صوتي يرتجف كما لو أن حنجرتي من رماد، وكان الحزن يُشعل كل بيتٍ أكتبه كأنه موقد آخر من مواقد الحسين.
لكن هذا العام، جاء العاشر صامتا…
لا حنجرة تنتفض، ولا قلمٌ ينزف من بين الحروف.
كأن الصوت جُفف في حلقي، أو دُفن تحت رماد العزاء القديم، أو لربما رُحل مع النسوة السبايا، مع الخطى المنكسرة التي مشت بها العقيلة، والدم لا يزال طريًّا في طرقات الطف.
توقفت الحروف عند حافة القلب، خجلت الكلمات من أن تتكرر، خافت من أن تبتذل الدمع الذي سال قبلها بقرون، فآثرت الصمت.
ووقف الصوت أمامي كقبرٍ مفتوح، يسألني: أين البكاء الذي تعودته منك؟
ولا جواب…
فكل ما كنت أقوله، قيل.
وما تبقى، لا يُروى بالكلمات، بل يُحسّ، يُرى في العيون المكسورة، يُشمّ في غبار الطريق نحو كربلاء، يُسمع في أنفاس الزائرين الذين يسيرون حاملين وجع العالم على أكتافهم، مرددين: لبيك يا حسين.
قلمي لم يبرد… هو فقط سار قبل أقدامي، مضى مع الزحف نحو الأربعين، اندسّ بين دموع العابرين، خبّأ نفسه في أنين الأرامل، في بكاء الأطفال، في خفق العشق على رايات المواكب.
وسيعود…
في الأربعين سيولد من جديد، لا من ذاكرتي، بل من قلب الأرض، من القلب الذي لا يخون، ومن دمع الفقراء وأرواح عشّاق الحسين.. سيكتب:
يا من ذبحَ الظمأ على ضفاف دمه… يا مولاي، ما زال فينا من يبكي، وما زال فينا من يكتب.
وصمتي في عاشورائك ليس غيابًا، بل انتظار، إنتظار لصوتٍ لا يُشبه الأصوات..
بل يُشبه الندبة الأولى عند رأسك الشريف، يُشبه الخُطى التي لا تعرف التعب، ويُشبه الرثاء…
حين لا يكون إلا دمعةً في قلب الفجيعة.