تشكّل المؤسسات الدينية في العراق وخصوصاً العتبات المقدسة، مورداً مهماً في العمل على نشر الثقافة الدينية والوعي بين شريحة المتعلمين، وتحديداً بين طلبة الجامعات الذين يتفاعلون مع ما تطرحه من برامج وأفكار، تخاطب عقولهم وذواتهم وحتى ذائقتاهم.
موقع (كلمة) الذي رصد مثل هذا المشهد العصري والمتحضّر ارتأى تناوله في هذا التقرير، من خلال المقابلات واستطلاع الرأي؛ لمعرفة إمكانية مشاركة رجال الدين ومؤسسات كبيرة مثل العتبات المقدسة في زيادة الوعي الديني لدى طلبة الجامعات؛ في ظل ما يُعرف أو تصوغه المؤسسة الدينية ذاتها بـ "الغزو الثقافي"، وتعدّه أنه "يمثل خطراً بعيد المدى" على المجتمع العراقي.
ولا يتحقق مثل هذا الدور إلا في مجالات التعاون مع المؤسسات التعليمية ومن بينها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى جانب وزارة الشباب والرياضة ووزارة الثقافة، فضلاً عن المنظمات التنموية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني.
ويثيرُ (كلمة) في هذا التقرير أسئلة رئيسية عدّة:
ما الدور الذي يمكن أن تؤديه المؤسسات الدينية في صياغة الوعي الديني لدى طلبة الجامعات العراقية؟
وما الدور الذي لعبته فعلياً ما بعد تغيير عام 2003؟
وكذلك ما هي القيود التي تواجهها؟
المرجعية والعتبات... أدوار ومهام
تبدي المرجعية الدينية ومسؤولو العتبات المقدسة اهتماماً واسعاً إزاء شريحة المتعلمين، حيث يمثل هؤلاء الثقل الأكبر في تحقيق التثقيف الديني وصناعة الوعي لدى الشرائح المجتمعية الأخرى، كما لا يخفون أن هناك هجمة فكرية توصف بـ "الغزو الثقافي الغربي"، حيث انفتح العراق على مصراعيه ما بعد العام (2003)، وبعد مغادرة نظام بعثيّ علماني إلى الانفتاح على أنظمة متعددة، ومحاولات جهات عديدة أن تجدَ لها موطن قدمٍ على أرض الواقع أو مساحةً في التفكير الجمعي لطلاب الجامعات، الذين يمثلون الشريحة الشبابية الأهم.
ففي مدينة النجف ذات الإرث الثقافي والديني الزاخر المتمثل بمرقد الإمام علي (ع) والحوزة العلمية، تقام العديد من الفعاليات التي تعدّ خطوات مهمة لتعزيز الارتباط بين الشباب الجامعي والمرجعية الدينية، ومن بينها الملتقى الشبابي الذي يُعقد كل عام تزامناً مع زيارة أربعينية الإمام الحسين (ع) وضمن المشروع التبليغي للحوزة الدينية.
وبحسب تصريح لأحد المشرفين على الملتقى الشيخ مصطفى الفرهود، تابعه (كلمة) قال فيه: إنّ "الملتقى الشبابي لطلبة الجامعات العراقية يُقام برعاية المرجعية الدينية العليا والعتبات المقدّسة، وخصوصًا العتبة العبّاسية التي دعمت الملتقى من حيث التغطية الإعلاميّة والحضور وبقية الأمور اللّوجستية".
وأضاف أن "الملتقى يهدف إلى تعزيز ارتباط الشباب الجامعي بالحوزة العلميّة، وتسليط الضوء على زيارة الأربعين بوصفها مسيرة وبصيرة ذات بُعد ديني ومعنوي عميق، وليست مجرد طقس اجتماعي سنوي".
وأوضح أنّ " الملتقى يسعى لإبراز مدى ارتباط طلبة الجامعات، الذين يمثلون أمل هذا البلد، بهذه المسيرة المباركة، وكذلك تمسكهم بالثقلين: كتاب الله تعالى والعترة المطهرة، والتزامهم بقيم سيد الشهداء التي ضحى من أجلها، وفي مقدمتها طلب الإصلاح".
كما وضعت العتبة العلوية في النجف برامج خاصة لتثقيف الشباب الجامعي؛ والتي انعكست إيجاباً على شخصياتهم ورفد بالمعرفة الدينية التي تعدّها إدارة العتبة العلوية مهمّة في هذا الوقت الحساس الذي يمر به العراق بشكل عام.
ووفقاً لما نشره الموقع الرسمي للعتبة العلوية وتابعه (كلمة) فإنّ "المرقد العلوي يشهد باستمرار إقامة برنامج ثقافي توعوي، والذي يستهدف طلبة الجامعات العراقية، ويقام بالتعاون مع معتمدي المرجعية الدينية العليا".
البرنامج التثقيفي هذا يهدف إلى "تعزيز القيم الإسلامية لدى الطلبة الجامعيين؛ من خلال مدّ الجسور التعاونية والثقافية بين المؤسسة الدينية والأكاديمية".
وتشمل فعاليات البرنامج "إلقاء محاضرات دينية تتناول الموضوعات الفقهية وعلاقة الدين بالحياة الجامعية" وفقاً لما ذكره مسؤول العلاقات الداخلية في العتبة العلوية كرار شاكر.
وأوضح شاكر بأنّ "العتبة العلوية تؤكد من خلال هذه الاستضافات حرصها على دعم الطلبة الجامعيين عبر برامج تربط بين التعليم الأكاديمي والقيم الإسلامية، مما يسهم في تنشئة جيل واعٍ ومؤمن بهويته الثقافية والدينية" بحسب قوله.
كما ترعى العتبة العلوية باستمرار إقامة حفلات التخرّج للطلبة الجامعيين، وهي فعاليات تشهدها باستمرار مدينتا النجف وكربلاء، وتعدّ الأبرز من بين الفعاليات الجامعية.
ووفقاً لمسؤول قسم الإعلام حيدر رحيم فإن "هذه المبادرة تأتي ضمن فعاليات وبرامج متعددة تحاول العتبة العلوية من خلالها رعاية شريحة الشباب بالخصوص الطلبة الجامعيين".
وأكد رحيم بأنّ "رعاية برنامج حفلات التخرج يأتي ضمن الاستعدادات الجارية لرعاية كبرى وواسعة لآلاف الطلبة الجامعيين الخريجين".
وأطلقت العتبة العلوية في وقت سابق برامج أخرى بينها (مشروع اليوم الثقافي لطلبة الجامعات، المحاضرات الدينية لطلبة الأقسام الداخلية، الفعاليات القرآنية والندوات الفكرية لطلبة الجامعات العراقية).
أما العتبتان الحسينية والعباسية في مدينة كربلاء، فتشكّل فعالياتها الثقل الأكبر وتعدّ الأبرز على مستوى العراق؛ بحسب ما تتبّعه موقعنا من نشاطات ثقافية وفكرية واجتماعية داخل الوسط الجامعي، والذي يلقى تفاعلاً كبيراً من قبل هذه الشريحة.
وبتاريخ (30 نيسان/ أبريل 2024) أكد المجمع العلمي للقرآن الكريم في العتبة العباسية، أنّ المشاريع التي تتبناها العتبة المقدسة تولي اهتماماً بالغاً بالشباب، وخصوصاً طلبة الجامعات العراقية.
مدير معهد القرآن التابع للمجمع في مدينة النجف، الدكتور مهند الميالي ذكر في تصريح تابعه (كلمة) أنّ "اهتمام العتبة العباسية بهذه الشريحة المهمة بما يخص القرآن الكريم، هو الملف الذي يمثّل الفكر والعمق الديني، والفكري، والثقافة القرآنية وإشاعتها ممزوجة بثقافة الثقلين".
ويشهد المشروع القرآني للعتبة العباسية المقام سنوياً إقامة ندوات قرآنية في الكليات والمعاهد وفي الأقسام الداخلية، ومسابقة قرآنية جامعية في الحفظ والتلاوة المفسرة، إضافة إلى المعرض القرآني السنوي، ودورات قرآنية في القراءة الصحيحة وقواعد التجويد، وبرنامج تطويري لأساتذة الجامعات، ومسابقة لأفضل بحث تخرج قرآني، وغيرها من البرامج الهادفة إلى ترسيخ نهج الثقلين في الأوساط الجامعيّة.
وبالنسبة لوكيل المرجعية الدينية العليا والمتولي الشرعي للعتبة العباسية السيد أحمد الصافي، فإن شريحة الطلاب الجامعيين يمثلون المستقبل الزاهر للعراق.
إنّ هؤلاء الجامعيين بحسب السيد الصافي يمثلون "مشروع العراق المستقبل ومَن يُعوَل عليهم لخدمة هذه البلاد بكلّ ما أوتوا من طاقة وإمكانات علمية".
وبتاريخ (30 كانون الثاني/ يناير 2024) وقف السيد الصافي على منصّة احتفال التخرّج المركزي لطلبة الجامعات العراقية وصرّح أمام الآلاف من الطلبة المشاركين قائلاً: "أُسعد حين أتكلّم مع طبقة واعية تحمل الهمّ وتفهم المقصود"، مبيناً أن "الحياة بدأت تتعقّد بتجاذباتها الكثيرة، قد يكون بعضها عفوياً ولكن البعض الآخر وراءه أيادٍ، نحن نحزن حين سماعنا بوجود الإخفاقات أو الفساد الذي يقضم من الطاقات البشرية، ونعلم أن ذلك دون أدنى شكّ سيؤثّر على صبغة هذا البلد، الذي نريد له أن يكون بصبغتِه ناصعةِ البياض".
الشباب.. وبناء المستقبل المشرق
ويظهر للمتابعين والمراقبين للمشهد العراقي أن المرجعية الدينية العليا أبدت اهتماماً واسعاً بالطلبة والشباب بشكل عام.
والسبب يعود في ذلك بحسب ما بينه السيد أحمد الصافي خلال خطبة الجمعة في الصحن الحسيني بتاريخ (28 كانون الأول/ ديسمبر 2018)، إلى أهمية هؤلاء الشباب في بناء المستقبل المشرق للبلد؛ ناهيك عما يتعرّضون له من هجمة ثقافية وفكرية.
وأوضح السيد الصافي أن "الشباب هم عُنوان الفتوّة وعنوان الحياة في كل امّة، وبجود الفتوّة والحركة يدل على ان البلد بلد حيّ ليس بلد عجائز، وليس بلداً لا يوجد فيهِ نمو".
كما لا يخفي أيضاً أن "الشباب العراقي يعاني من مشاكل كثيرة وكبيرة"، مبيناً أن "هؤلاء الشباب علينا يجب أن لا نجعلهم ضحيّة".
ثم يخاطبهم قائلاً: "أنتم أيها الشباب ذخيرة البلد، فلا تُجَرّوا وراء عوامل تُحبط من ارادتكم، أنتم الآن المعدن الطيب، أنتم الآن الأمل، أنتم الآن الذين تُعقد عليكم الآمال".
أما ممثل المرجعية الدينية العليا والمتولي الشرعي للعتبة الحسينية الشيخ عبد المهدي الكربلائي؛ فقد أكّد في مرّات عديدة على ضرورة دعم الشباب والأخذ بأيديهم، مشيراً إلى الدور الذي تلعبه الشريحة المثقفة والواعية من طلبة الجامعات العراقية.
خلال خطبة الجمعة من الصحن الحسيني بتاريخ (26 نيسان/ أبريل 2019) صرّح الشيخ الكربلائي قائلاً: إنّ "الشريعة الاسلامية والمجتمعات الواعية المتحضرة ببناء جيل الشباب والاعتناء بتربيتهم وبنائهم في جميع مجالات الحياة البناء الصحيح وفي نفس الوقت أعطت الاهتمام الكافي لتحصينهم وحمايتهم من الانحراف والفساد والضلال".
ويشير الشيخ الكربلائي إلى حقيقة موجودة على أرض الواقع، والتي تتمثل فيما أسماه بـ "الغزو الثقافي والمعرفي والأخلاقي واعتبر بأنه من "أهم المخاطر والتحديات التي يواجهها الشباب".
ورأى بأن "مجالات الحياة بالنسبة للشباب مهمة سواء ما كان يتعلق بالعقيدة أو المعرفة العامة أو الأخلاق أو المبادئ القيم أو التطلعات أو التوجهات، وحتى في الرغبات والعادات والتقاليد الشاب يحتاج ان يعرف الثقافة الصحيحة".
وأشار إلى أن "الحياة الحقيقية والسعيدة للإنسان تتقوم بمجموعة من العناصر، متمثلة "بثقافة الأخلاق والتربية والمبادئ والقيم والفضال الحميد"، موضحاً أن "الحياة النجاحة والسعيدة تتوقف عليها، كذلك الاهتمام بمسألة العمر والوقت والصحة والعافية أمور كثيرة يحتاج إليها الشاب".
التأسيس لثقافة دينية رصينة
من جهته اعتبر الصحفي حيدر الموسوي في تصريح لـ (كلمة) أنّ "مثل هذه الفعاليات أن تؤسس لثقافة دينية رصينة، حيث تجد العقول الواعية والآذان الصاغية التي تتفاعل مع الخطاب الديني الأصيل وترفض الثقافة البديلة للثقافة الدينية وتنطلق بذلك نحو الحياة بفاعلية ونجاح".
وتابع بأنّ "المؤسسات الدينية وخصوصاً العتبات المقدسة أدرت جيداً خطورة الهجمات الفكرية والغزو الثقافي المسلّط على الجيل الشبابي، ومن هنا انطلقت مثل هذه الفعاليات لتحصين هذه الشريحة الاجتماعية المهمّة؛ باعتبارها أنها تمثل مستقبل أي بلد".
في حين قالت الباحثة رقية الحسناوي لـ (كلمة): إنّ "مثل هذه الفعاليات يجب أن لا تقتصر على الشباب في مرحلة الجامعة؛ وإنّما تبدأ من رياض الأطفال وصولاً إلى الجامعة"، مبينة أن "النشء الصغير الذي يتربى على الخطاب الديني يعزّز لديه مستقبلاً انتماءه لعقيدته وثوابت وقيم دينه".
وأضافت بأنّ "دور الفعاليات الجامعية تطرح الثقافة الدينية الأصيلة والنابعة من السنن والتعاليم الإلهية، فتحصّن بذلك الفرد العراقي أمام التيارات الفكرية المنحرفة ودعوات الإلحاد، وكذلك تجعل من الشاب متديناً معتدلاً وحيوياً ومساهماً بقوّة في نشر الوعي الديني بين الشراح المجتمعية الأخرى".
وأكدت في الوقت ذاته بأنّ "أثر الفعاليات المقامة من الحوزة العلمية والعتبات واضح وجلي على سلوكيات الطلاب الجامعيين، وكذلك في سلوكيات وتصرّفات الطالبات الجامعيات اللواتي ينطلق من العفة والاحتشام لممارسة حياتهن العملية بعد التخرّج".
ومع هذه الجهود المبذولة، يظهر اهتمام الجامعات العراقية هي الأخرى في نشر الثقافة الدينية داخل المجتمع الطلابي، ذلك لأنّه بحسب الدكتور حيدر تقي من جامعة واسط "يحصّن الطلاب أمام مخاطر العولمة الثقافية الغربية وتأثيراتها على الدول العربية والإسلامية" بحسب قوله.
وأضاف في كلمة له خلال ندوة أقامتها الجامعة وتابعها (كلمة)، بأن "المجتمع الشبابي يتعرض لغزو ثقافي من قبل الدول الغربية التي تستخدم وسائل التكنولوجيا والاتصالات الحديثة في تحقيق أهدافها وتصدير ثقافتها للمجتمعات المسلمة".
وحذّر تقي في الوقت ذاته "من عدم تعطيل طرح الخطاب الديني وسط المجتمع الجامعي؛ لكي لا نصل إلى حد عدم إمكانية التعامل مع المد الفكري الغربي"، مؤكداً بأن "التحصين الثقافي والديني يكون من خلال طرح الرؤية الإسلامية الصحيحة التي وضعت حلولاً ناجعة لمواجهة المدّ غير الديني".
أدوار ومسؤوليات الخطاب الديني
أما فيما يتعلّق بموضوع القيود التي تواجه المؤسسة الدينية في ممارسة أدوارها داخل المجتمع الشبابي ومنه الجامعي، فهي ليست قيوداً بالمفهوم الصحيح بقدر ما أنّ هناك حاجة إلى طرح خطاب ديني ينسجم مع ذهنية وتفكير أفراد هذه الشريحة ويلبي فضولهم المعرفي. كما تحدّث بذلك رجل الدين الشيخ مظفّر عباس.
وقال عباس في حديثه لـ (كلمة): "كلما كان الخطاب الديني وسط هذا المجتمع أكثر فاعلية ويستطيع استقطاب أسماع وعقول الشباب إليه؛ كلّما أدى أدواره الفاعلة والأهداف المرجوّة منه".
ولفت إلى أنه "لا ننكر أبداً أن هناك موجة عاتية تستهدف الشباب العراقي وخصوصاً طلبة الجامعات وأثرت على عدد كبير منهم؛ ولكن في الوقت ذاته نجح الخطاب الديني في تغيير المفاهيم الخاطئة لدى آخرين وسينجح في طرح المعلومة الصحيحة وترسيخها في الأذهان كلّما كان الفعاليات والخطاب الديني قريبة من هموم الشباب وتتناغم مع تطلعاتهم".
وشدد عباس بأنّ "الفعاليات الدينية يجب أن تقدّم على أساس علمي وواقعيّ ويستخدم الأدوات الفاعلة، وبالتالي سيكون تأثيره أكبر على الشريحة المستهدفة التي لا تنتظر طرح المشكلات وإنما الحلول الناجعة للمشكلات التي تعيشها على مختلف الأصعدة".